خطبة الجمعة 4 سبتمبر 2020 م : الإيمان والعلم ، للشيخ كمال مهدي
خطبة الجمعة القادمة ٤سبتمبر ٢٠٢٠م الموافق ١٦ من محرم ١٤٤٢ هـ بعنوان {الإيمان والعلم}
لقراءة الخطبة كما يلي:
!! الحمد لله وكفى وسلاماً على نبيه الذي اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
أما بعد : أحبتي في الله :_
يقول جل وعلا (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).؛ [المجادلة: ١١]
وقال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[ الروم :٥٦]
**إن المتأمل في هاتين الآيتين يجد أن الله جل وعلا قرن بين الإيمان والعلم
وهذا دليل على أن أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعلم..
س : فما هي العلاقة بين الإيمان والعلم؟
!! علاقة الإيمان والعلم في الفهم الإسلامي علاقة تكميليّة، أي إن أحدهما يكمّل الأخر.
**العلم يمنحنا القوة وينير لنا الطريق، والإيمان يبعث في قلوبنا الأمل والاندفاع.
**العلم والإيمان كلاهما يمنحان الإنسان القوة، لكن العلم يمنحه قوة منفصلة والإيمان يمنحه قوة متصلة.
**العلم جمال والإيمان جمال، غير أن العلم جمال العقل، والإيمان جمال الروح..
**فالعلم والإيمان نور في الدنيا يرفع قدر صاحبه بين الناس، ونور في الآخرة يجتاز به صاحبه أهوال القيامة؛ ولذلك جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان بالنور وعن الجهل والكفر بالظلمات.
!!!! من هنا نستطيع أن نرى العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان، فهما توأمان لا ينفصلان، فكلما ارتقى الإنسان في علمه قطعاً سيرتقي في إيمانه بالله وبوحدانيته جل وعلا..
فالعلم يكشف الحقائق وكلما كشفت الحقائق ظهر الإعجاز الإلهي الذي لا نظير له في خلق هذا الكون البديع ، لهذا السبب يعد العالم أفضل بمرات من العابد، فما أجمل العلم عندما يقترن بالإيمان،
!! فشرف الدنيا والآخرة لأهل العلم والإيمان..
فمن نال شيئاً من شرف الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم:
* فقد رفع الله عز وجل من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم عليه السلام، انظر إلى أي مدى رفع الله قيمة العلم.لماذا أَسْجَد الله عز وجل الملائكة لآدم عليه السلام؟ وبماذا تميّز هذا الخلق الجديد (آدم) على الملائكة؟ هل بكثرة التسبيح؟ أم بطول القيام؟ أم بالطاعة المطلقة لله تعالى؟أم بالقوة الخارقة؟الملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله عز وجل مَنّ على آدم عليه السلام بنعمة رفعت من قدر آدم إلى الدرجة التي جعل الملائكة يسجدون له تكريمًا له، هذه القيمة وهذه الدرجة هي العلم، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:٣١_٣٢]، ونلاحظ تكرار كلمة العلم ومشتقاتها (قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ*وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا)
***وما حصل ليوسف عليه السلام من التمكين في الأرض والعزة والعظمة بعلمه بتعبير تلك الرؤيا، ثم علمه بوجوه استخراج أخيه من إخوته بما يقرُّون به ويحكمون هم به حتى آل الأمر إلى ما آل إليه من العِزّ والعاقبة الحميدة التي توصَّل إليها بالعلم كما أشار إليها سبحانه في قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦]
***وما حصل مع موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف (قال له موسى هل أتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا) المتعلم هنا هو موسى نبي الله والمُعلم هو الخضر، وموسى هو الذي يعلن بأدب جم وبأسلوب يتمثل، في نيته وصادق رغبتة في التعلم من الخضر الذي هو اكثر علماً منه حسب تواضع موسى واعتقاده، والعلم الذي يريده موسى هو العلم الراشد، الذي تعلمه الخضر عن ربه، ووصفه موسى بالراشد إجلالاً وتعظيماً لمصدره الأول الله سبحانه وتعالى واحتراماً وتقديراً للشخص الذي يحمله وهو الخضر.. .
!! وحينما نتأمل موقف الإسلام من العلم نجد ترابطاً وثيقاً بين العلم والإيمان فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد يقينًا ومعرفة وخشية لله عز وجل، قال تعالى مبينا أن العلماء هم أشد الناس خشية له ومعرفة بمقامه ( إِنمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِن اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )؛ [سورة فاطر:٢٨ ] فالعلم يهدى إلى الإيمان ويقوي دعائمه، والإيمان يدعو إلى العلم ويرغّب فيه، وهذه العلاقة الوثيقة لا نجدها في غير الإسلام ..
!! وفي جانب آخر فإن العلم إذا لم يُضبط بالإيمان عاد نفعه ضراً، وخيرُه شراً، حيث يقود إلى الاستكبار عن الحق , منكراً صاحبُه نعم الله عليه. وقد قص الله علينا أخبار أقوام أوتوا من العلم ما أوتوا لكنهم أوتوا علماً بلا إيمان فجحدوا نعم الله تعالى ، واستكبروا عن الحق المبين. قال – تعالى – : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر: ٨٣]. وقارون جحد نعمة الله عليه ونسب ما أوتي من مال إلى علمه فـ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: ٧٨]
**!!!! وللأسف أن هناك كثير من الناس يعبد الله عز وجل بنية صادقة، لكن بطريقة خاطئة، وبدون علم، فمثل هذا يضر، ولا ينفع إن وجد في أي مجال من مجالات الحياة، ليس فقط في مجال الدين، فالطبيب الجاهل يضرّ مرضاه، ولا ينفعهم، وكذلك المهندس
?
1
الشيخ كمال مهدي
الجاهل، وأي وظيفة يعمل فيها الإنسان دون علم، وأيضا في مجال العبادة، فإن العابد الجاهل يضر نفسه، ويضر غيره، ويضر مجتمعه، فقضية العلم قضية محورية في حياة الأمة المسلمة.
ولا شك أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لاحظوا أن أول آية نزلت من القرآن الكريم الذي هو دستور الحياة بكاملها كانت {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:١].
وهذا شيء غريب حقًا فإن الزمن الذي نزلت فيه هذه الآيات لم تكن الأميّة منتشرة في جزيرة العرب فحسب، بل في أطراف المعمورة كلها، ومن بين كلمات القرآن الكثيرة كانت أول كلمة هي {اقْرَأْ}، وليست أول كلمة فحسب، بل أول خمس آيات من القرآن الكريم تتحدث كلها عن قضية العلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ*عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: ١_ ٥].
!!! وتعالوا بنا لنرى فضل العلم مع الإيمان من خلال صحابة النبي صلى الله عليه وسلم…
* فهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه
ما هي قصته مع العلم وكيف بدأ؟ ذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره ليلتحق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّه لصغر سنه، فرجع إلى أمه رضي الله عنها، وأرضاها يبكي من الحزن، ولكنه لما رجع أخذ يفكّر كيف يخدم الإسلام بطريقة أخرى، وهل يمكن أن يخدم الإسلام بطريقة غير الجهاد الذي لم يتيسر له الآن؟
، فكر زيد بن ثابت رضي الله عنه إن لم يكن يصلح أن يشارك في الجهاد الآن لصغر سنه، فيمكن أن يشارك في مجالات أخرى يخدم بها الإسلام، وينفع بها المسلمين.
فتذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، فهو يحفظ جيدًا، ويتميز كذلك بملكة القدرة على التعلم، وبملكة القراءة، والقراءة في هذا الوقت كانت شيئًا نادرًا، وقد أخبر بذلك أمه، وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعرضوا عليه أن يوظف طاقاته العلمية هذه في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خدمة الإسلام، وبالفعل ذهبت أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وأرضاها، ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتأمل عرضها الرائع لما يتمتع به ابنها من مواهب وقدرات عظيمة، تقول:يا نبي الله، هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبعة عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق- ذكي- يجيد الكتابة والقراءة.
وتكمل السيدة النوّار بنت مالك وتقول: وهو يريد -أي زيد- أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إذا شئت.
وهذا الكلام أحب أن أذكّر به دائمًا شباب المسلمين، زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بدأ رحلته في خدمة الإسلام وعمره ثلاثة عشر عاما، فكما كان بعض المسلمين يسدّ ثغرة القتال، والجهاد في سبيل الله، فإن زيد بن ثابت يريد أن يسد ثغرة أخرى في غاية الأهمية، فكل حسب إمكانياته، وقدراته، والشباب لديهم قدرات، ومهارات عالية جدًا، بعض الشباب لديهم مهارة في الكمبيوتر، وبعضهم لديه مهارة في الخطابة، والبعض لديه مهارة في الرياضة المفيدة، وبعضهم لديه مهارة في الكتابة والبحث والدراسة، وبعض الشباب عنده مهارة في الترجمة،
تعالوا بنا نعود مرة أخرى لزيد بن ثابت، وقد استمع له الرسول صلى الله عليه وسلم، واختبره وقدّر مواهبه، وأُعجب به، ثم أراد أن يستفيد منه على نطاق أوسع، فعرض عليه فرعًا جديدًا من فروع العلم، النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له تعلم الفقه، أو تعلم العقيدة، أو تعلم الحديث، بل قال له: تعلم اللغات الأجنبية، رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتم بتعلم اللغات الأجنبية، قال له صلى الله عليه وسلم:”يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَةَ الْيَهُودِ- العبرية- فَإِنِّي لَا آمَنُهُمْ عَلَى كتاب”.
سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بهذه الحمية، وهذا الإخلاص لدين الله عز وجل، وهذه الرغبة في خدمة هذا الدين يذهب، ويتعلم اللغة العبرية، تُرى ما المدة التي استغرقها في تعلم هذه اللغة؟ سنة أم اثنين؟ وبكم كلية التحق؟ وكم أخذ من الدورات المتخصصة؟ يقول رضي الله عنه وعمره ثلاثة عشر عاماً فقط: فتعلمتُها في سبع عشر ليلة، فكنت أتكلمها كأهلها.انظر إلى هذه البركة، فمن كان عنده الرغبة، فما من شك أن الله عز وجل يساعده، المهم أن يكون تعلمه لخدمة دين الله عز وجل، لكي يثبت دين الله في الأرض، ثم تعلم اللغة السريانية في وقت يسير كذلك، وصار بذلك ترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن مترجم الدولة الإسلامية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره ثلاثة عشر عاما ًفقط، الصف الأول الإعدادي، وبدأ زيد يترقى في مناصب العلم، بدأ في تخصصه، يبرع وينبغ رضي الله عنه وأرضاه، صار كاتبًا للوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس مترجمًا فحسب؛ لأنه يقرأ ويكتب جيدًا، بدأ يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار حافظا لكتاب الله عز وجل..
ولمّا توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه زيدًا بجمع القرآن بعد وفاة الكثير من حفاظه في موقعة اليمامة المشهورة، ومهمة جمع القرآن من أعظم المهمات، مهمة من أخطر المهمات، إنه يجمع القرآن الكريم؛ لكي يظل مجموعًا ومحفوظًا إلى يوم القيامة، هذه المهمة الصعبة العظيمة كُلّف بها زيد رضي الله عنه وأرضاه، وهو لم يبلغ الثالثة والعشرين من عمره، وقد أوكلت هذه المهمة الصعبة العظيمة إلى الشاب الصغير زيد بن ثابت -٢٣سنة- في وجود عمالقة الصحابة، في وجود أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وغيرهم في وجود كل هؤلاء، لماذا ؟!
إنه العلم الذي رفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، العلم الذي يرفع أقوامًا ويضع آخرين، العلم الذي هو ميراث الأنبياء، من أخذه اخذ بحظ وافر..
وانظر إلى التعظيم والتبجيل لقيمة العلم..
روي أن زيد بن ثابت ركب يومًا دابته، فأخذ ابن عباس بركاب الدابة .الاحترام، والتعظيم، والتبجيل لزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه لعلمه فقال له زيد بن ثابت حياءً منه: دع عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول عبد الله بن عباس بفهم عميق: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائنا. هذا هو احترام العلماء في الإسلام، ، فقال له زيد رضي الله عنه: أرني يدك. فأخرج ابن عباس يده، فمال عليها زيد وقبّلها، ثم قال: وهكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم…
!!! وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنه
البحر والحبر، من أفضل علماء الإسلام، ووصل إلى هذه الدرجة العالية من العلم مع كونه كان طفلًا أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عباس لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره، ولكنه رضي الله عنه لم يصل إلى هذه المنزلة من فراغ، بل إنه سعى سعيًا حثيثًا لكي يصبح عالمًا من علماء الإسلام.
يصف عبد الله بن عباس حاله في طلب العلم وكيف وصل إلى هذه الدرجة يقول: كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيت باب بيته في وقت قيلولته؛ حتى يكون متأكدًا من وجوده ببيته، وقد ينتظر ساعة، أو اثنين حتى يخرج الصحابي، فيسأله عن الحديث، يقول: وتوسدت ردائي عند عتبة داره، فتسفي عليه الريح من التراب ما تسفي.
والمدينة كما نعرف بلد صحراوي، فيأتي التراب على وجه عبد الله بن عباس، وهو متوسد رداءه أمام بيت الصحابي؛ ليسأله عن الحديث، يقول: ولو شئت أن أستأذن عليه لأذن لي.
فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله منزلة عالية في قلوب جميع الصحابة، وجميع المسلمين، يقول: وإنما كنت أفعل ذلك لأطيّب نفسه، فإذا خرج من بيته رآني على هذه الحالة، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك.فأقول: أنا أحق بالمجيء إليك، ثم أسأله عن الحديث.لأجل هذا أصبح عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة، كان يبذل مجهودًا كبيرًا، وعظيمًا لأجل أن يحصل العلم، فما كان ليصبح هكذا من فراغ.
***وعلينا أن نسأل أنفسنا ونقول ماذا حدث حينما انفصل العلم عن الإيمان، وأصبح علما دنيوياً مادياً لا يؤمنُ بالغيب ولا يعرفُ للآخرة سبيلاً؟
!!!!أقول صارَ علماً يسعى في تدمير الأرض ومن عليها، في سبيل الهيمنة والسيطرة على العالم. لقد فقد الإنسان السيطرة على العلوم التي تعلمها، فصارت بعد فقد الإيمان أهم سبب لتدمير العالم فبواسطة العلوم الفيزيائية صنع الإنسان القنابل الذرية والنووية والبيولوجية والجرثومية التي يعلم مكتشفو نظرياتها وصانعو صواريخها أنها لو أطلقت لأهلكت ملايين البشر بمن فيهم صانعوها ومطلقوها ومع ذلك صنعها الإنسان لأنه لا إيمان يضبطه، ولا خوف من الآخرة يردعُه عن الإسهام في دمار البشرية.
وفي مجال الهندسة الوراثية صاروا بالعلم يلعبون بالأجنةِ يريدون أن يخلقوا كخلق الله تعالى -.
إنهم وبالعلم لوَّثوا البحار والأنهار، وأفسدوا الزروع والأشجار حتى ما عاد لثمارها طعم بسبب الكيميائيات التي تنضجها قبل وقتها، وتجعلها أكبر من حجمها، وتزيد في محصولها،
إنهم وبالعلم أطلقوا الأقمار الصناعية التجسسية فهل سعدوا؟!
إن التجسس يدل على الخوف، والخوفُ دليل شقاءٍ, لا دليل سعادة!!
إنهم وبالعلم نوّعوا التجارات، وعددوا سبل الحصول على المال، وصار البيعُ والشراء عن طريق شبكات الاتصال العالمية.. فهل شبع أهلُ المال من المال؟ لا فإنهم يريدون المزيد والمزيد، وإلى متى؟ وكلٌّ ما يجري على الأرض يجري إلى متى؟!
إن له أجلاً وإن له نهاية فهل يعقلون؟ وهل يضبطون ما أوتوا من علوم الدنيا بالإيمان بالغيب والإيمان بالدارِ الآخرة؟! إنهم لن يتعظوا ولن يعقلوا حتى تقع الواقعة. فلينظر كل عاقل إلى أي مدى وصل العلمُ: إنه لما انفصل عن الإيمان أشقاهم في الدنيا ويوشك أن يدمرهم.
وصدق الله العظيم إذ يقول: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) [النجم :٢٩]
!!! 1 وفي الختام أقول :
لكي ترقى الأمم وتتقدم فلا بد لها من الإيمان والعلم معاً؛ أما العلم وحده: فقد يرفع أمة حتى تعانق السماء رفاهية ورغداً، ولكنها سرعان ما تتداعى مثلما تتساقط أوراق الخريف التي تعصف بها الرياح، وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش على شقاء مهددة في أمنها مقطعة الأواصر بينها يسود الناس فيها القلق ويظهر الانحلال، قوة بلا أمن ومتاع بلا رضا وحاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد، إنه الابتلاء الذي يعقبه النكال
ومن هنا فلا عودة لنا إلى سابق عزنا ومجدنا إلا إذا أقبلنا على العلم من منطلق إيماني خالص،
نسأل الله تعالى أن يرزقنا إيمانا خالصا وعلما نافعا وقلبا خاشعا وبدنا على البلاء صابرا ولسانا ذاكرا
***
كتبه :الشيخ /كمال السيد محمود محمد المهدي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية